الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه الطيِّبين الطهرين، وبعد، فقد وُلِدَ رسولُنا الأمينُ محمد بن عبد الله بن عبد المطلبصلى الله عليه وسلم في يومِ الإثنين الثاني عشر من ربيعِ الأولِ عامَ الفيلِ بِمَكةَ المكرَّمة.
وسنبدأ الحديثَ عن المولِدِ النبوِي الشريف وما ثبَتَ مِن علاماتِ النبُوَّةِ في مَولِدِه الشريف، بتاريخ مولد النبي صلى الله عليه وسلم: وما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحديث قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه، وحديث قُباث بن أشْيَم الليثي رضي الله عنه: أنَّ المولد النبوي كان عامَ الفيل. ثم ذكر ما ثبتَ من: خروج النور عند مولدِه صلى الله عليه وسلم: وما صحَّ في: قصةِ هرقل مع أبي سفيان في علامات النبوة المحمدية، ودلالة رؤيا هرقل ملك الختان وتحول المُلْك إلى العرب. وما صرَّح به هرقل برؤيته طلوع ملك الختان وتأويله ذلك بأن ملك العرب سيظهر، وتقريره بعد معرفته صفات هذا النبي العربي أنه سيملك ما تحت قدميه.
وسنضرب صفحا عن الروايات الضعيفة والواهية التي ورد فيها ذكر إرهصات لا تثبت، والصحيح والحسن يغنيان عن الضعيف.
قال د. أكرم ضياء العمري: “وردت روايات موضوعة حول هواتف الجن في ليلة مولده، وتبشيرها به، وانتكاس بعض الأصنام في المعابد الوثنية بمكة. وحول ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نيران المجوس وغَيض بحيرة ساوة ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة وتنتشر في بلاد الفرس. وكذلك وردت روايات ضعيفة عن إخبارِ يهود بليلة مولده، وإخبار الراهب عيصا بمر الظهران بمولده، وقول العباس إنه رآه في المهد يناجي القمر. ولكن ثمة أخبارٌ تَقوَى ببعضِها إلى الحُسْن احتفت بمولده، منها ما يفيد أن آمنةَ رأت حين وضعَتْه نورا خرجَ منها أضاءت منه قصورُ بُصرى من أرضِ الشام”.
فقد كان مَولِدُ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم يومَ الإثنين المبارَك الثاني عشر من ربيع الأول عامَ الفِيل؛ فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يومَ الإثنين ويُعْنَى به؛ ويقول: (لك يومٌ وُلِدتُ فيه!) كما روى مسلم رحمه الله عن عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صومِه؟ قال: فغضبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرُ رضي الله عنه: رضِينا بالله رباًّ وبالإسلام ديناً وبِمُحمدٍ رسولاً وببَيْعَتِنا بَيعةً! قال: فسئل عن صيامِ الدهر؟ فقال: لا صام ولا أفطرَ ـ أو ما صام وما أفطر! ـ قال: فسئل عن صومِ يومين وإفطارِ يوم؟ قال: ومَن يُطِيقُ ذلك؟ قال: وسئل عن صومِ يومٍٍ وإفطارِ يومين؟ قال: ليتَ أنَّ الله قوَّانا لذلك! قال: وسئل عن صومِ يومٍ وإفطارِ يومٍ؟ قال: ذاك صومُ أخي داود عليه السلام! قال: وسئل عن صومِ يومِ الإثنين؟ قال: ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه، ويومٌ بُعِثْتُ أو أُنْزِلَ علَيَّ فيه).
والناسُ يَذكُرُون أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد وُلِدَ يومَ الإثنين؛ فلذلك كان يَصُومُه، ولكنْ قلَّما يذكرُون أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصُومُ يومَ الإثنين ويحتفي به؛ لأنه بُعِثَ وأُنزِلَ عليه في يومِ الإثنين!
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: “لا خِلافَ أنه وُلِدَ بِجَوْفِ مكة، وأنَّ مَولِدَه كان عامَ الفِيل”. وروى البيهقي رحمه الله عن أبي إسحاق إبراهيم بن المنذر قال: “الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل”. وقال الحاكم رحمه الله في معرفة علوم الحديث عند (ذكر النوع الرابع والأربعين من علوم الحديث: معرفة أعمار المحدثين من ولادتهم إلى وقت وفاتهم): “اختلفت الروايات في سنِّ سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يختلفوا أنه وُلِدَ عامَ الفيل، وأنه بُعِثَ وهو ابن أربعين سنة، وأنه أقام بالمدينة عشرا، إنما اختلفوا في مقامه بمكة بعد المبعث، فقالوا: عشرا، وقالوا: اثني عشرة، وقالوا: ثلاث عشرة، وقالوا: خمس عشرة، فهذه نكتةُ الخلافِ في سنِّه صلى الله عليه وسلم).
وقال النووي رحمه الله: “وَوُلِدَ عَام الْفِيل عَلَى الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقِيلَ: بَعْد الْفِيل بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع عَلَى عَام الْفِيل، وَلَيْسَ كَمَا اِدَّعَى. وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ وُلِدَ يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي شَهْر رَبِيع الْأَوَّل، وَتُوُفِّيَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْر رَبِيع الْأَوَّل، وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْم الْوِلَادَة هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْر، أَمْ ثَامِنه، أَمْ عَاشِره، أَمْ ثَانِي عَشَره؟”.
وقد روى الطبراني رحمه الله عن عَبْدِ اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بن مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بن مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بن أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ).
وقد روى الحاكم رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (وُلِدَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم عامَ الفيل).
وروى الترمذي رحمه الله في بَاب (مَا جَاءَ فِي مِيلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنْ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: (وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَسَأَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ أَخَا بَنِي يَعْمَرَ بْنِ لَيْثٍ: أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ، وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَرَفَعَتْ بِي أُمِّي عَلَى الْمَوْضِعِ قَالَ: وَرَأَيْتُ خَذْقَ الطَّيْرِ أَخْضَرَ مُحِيلاً).
وفي رواية البيهقي رحمه الله: (يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه؛ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين من الفيل).
وقد صحَّحَه الهيثمي رحمه الله فقال: “عن ابن عباس قال: وُلِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله مُوثَّقُون”.
وقد روى خليفة بن خياط رحمه الله في (تاريخه) عن قيس بن مخرمة رضي الله عنه قال: (وُلِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا عامَ الفيل). ورواه ابن أبي عاصم بلفظ: (ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل).
ورواه أحمد رحمه الله عَنْ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: (وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ؛ فَنَحْنُ لِدَانِ وُلِدْنَا مَوْلِدًا وَاحِدًا).
ورواه الحاكم عن قيس بن مخرمة، قال: (ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل كاللدتين)، قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وفي روايةٍ قال: (وُلِدْتُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل فنحن لدان).
وروى الحاكم عن علي بن حمشاذ العدل، ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت عبد الملك بن مروان، يقول للقباث بن أشيم : يا قباث ، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني ، وأنا أسن منه « ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وتنبأ على رأس الأربعين من الفيل).
ورواه الطبراني رحمه الله عن أَحْمَد بن عَبْدِ اللَّهِ بن عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بن هِشَامٍ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بن عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بن عَبْدِ اللَّهِ بن قَيْسِ بن مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بن مَخْرَمَةَ، قَالَ: (وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ، عَامَ الْفِيلِ، فَنَحْنُ لِدَّانِ).
روى ابن أبي عاصم رحمه الله عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، نا عبد العزيز بن أبي ثابت، نا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت عبد الملك بن مروان، يقول لقباث بن أشيم الكناني رضي الله عنه : أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: رسول الله أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ على رأس أربعين من الفيل).
وروى الطبراني رحمه الله عن الْعَبَّاسِ بن الْفَضْلِ الأَسْفَاطِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بن أَبِي ثَابِتٍ الزُّهْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بن مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ، يَقُولُ لِقَبَاثِ بن أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ: يَا قَبَاثُ، أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ، وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَتَنَبَّأَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنَ الْفِيلِ).
وهذا ما رجَّحَه البيهقي رحمه الله، فروى… عن محمد بن إسحاق، قال: (ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول). وروينا عن ابن عباس ثم عن قيس بن مخرمة ، ثم عن قباث بن أشيم (أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل)، وكان الزهري ومن تابعه يقولون: (وُلِدَ بعدَه)، والأول أصح”.
فقد شاء الله عزَّ وجلَّ بِحِكْمَتِه البالِغةِ أنْ يكونَ مَولِدُ رحمةِ اللهِ لِلعالَمِين صلى الله عليه وسلم في عامِ الفِيلِ الذي أنقَذَ الله فيه الكعبةَ المشرَّفَة مِن جَيشِ أبْرَهة وحَفِظَ فيه بيتَه العتيقَ مِن العُدوانِ، كما قال الله جلَّ جلاله: (ألم ترَ كيف فَعَلَ ربُّك بأصحابِ الفِيلِ ألم يَجْعَلْ كيدَهم في تَضْلِيلٍ وأرْسَلَ عليهم طيراً أبابِيلَ تَرْمِيهم بِحِجارةٍ مِن سِجِّيلٍ فجَعَلَهم كعَصْفٍ مأكُولٍ). قال السعدي رحمه الله: “أي: أما رأيتَ مِن قُدرةِ الله وعظيمِ شأنِه ورَحمتِه بعبادِه وأدلةِ توحِيدِه وصِِدْقِ رسولِه صلى الله عليه وسلم ما فعلَه الله بأصحابِ الفِيلِ الذين كادُوا بيتَه الحرام وأرادُوا إخرابَه؛ فتجهزوا لأجلِ ذلك واستَصْحَبُوا معهم الفِيَلَةَ لِهَدْمِه وجاءوا بِجَمْعٍ لا قِبَلَ للعربِ به من الحبشة واليمن، فلما انتَهَوْا إلى قُرْبِ مكةَ ولم يَكُنْ بالعَربِ مُدافَعةٌ، وخرجَ أهلُ مكةَ خوفاً منهم أرْسَلَ الله عليهم طيراً أبابِيل: أي مُتفرِّقة تحمِلُ أحجاراً محماةً مِن سِجِّيلٍ فرَمَتْهم بها وتتبَّعَتْ قاصِيَهم ودانِيَهم؛ فخَمَدُوا وهَمَدُوا وصاروا كعَصفٍ مأكُولٍ وكفى الله شرَّهم وردَّ كيدَهم في نُحُورِهم، وقِصتُهم معروفةٌ مشهُورةٌ، وكانت تلك السَّنة التي وُلِدَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فصارتْ مِن جُملةِ إرهاصاتِ دَعْوَتِه وأدِلةِ رِسالتِه؛ فلِلهِ الحمدُ والشُّكر”.
وقد ذكَرَ بعضُ العلماءِ رحِمَهم الله دلالةَ وِلادةِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم عامَ الفِيل، فقال ابنُ القيِّم رحمه الله: “وكان أمرُ الفِيلِ تَقْدِمةً قدَّمَها الله لِنبيِّه صلى الله عليه وسلم وبَيتِه، وإلا فأصحابُ الفِيلِ كانوا نَصارَى أهلَ كِتاب، وكان دِينُهم خيراً مِن دينِ أهلِ مكةَ إذْ ذاك؛ لأَنهم كانوا عُبَّاد أوثان؛ فنَصَرَهم الله على أهلِ الكِتاب نَصْراً لا صُنْعَ لِلبَشَرِ فيه؛ إرْهاصاً وتَقدِمةً لِلنبِيِّصلى الله عليه وسلم الذي خرَجَ من مكَّة، وتعظِيماً للبيتِ الحرام”.
وقد روى مسلم رحمه الله في بَاب (وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَنَسْخِ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
ولله درُّ الفيروزبادي صاحب القاموس ما أحسنَ قولَه:
قال أبو الحسن الندوي رحمه الله: “وما مضَى على وَقعةِ الفِيلِ خمسُ سنواتٍ حتى انتقَمَ الله من الأحباش؛ فما لَبِثَ أنْ أزال حُكْمَهم مِن بلادِ اليمن؛ فخلَت الجزيرةُ العربية مِن آثارِ النُّفوذِ المسيحي واستِعمارِ الأحباشِ في وقتٍ واحدٍ. جاء في (قيام الدولة العربية) ما خُلاصَتُه: “.
ولقد أحسَنَ أبو زيد الفازاري حين قال:
وقد فتَحَ الله عزَّ وجلَّ مِن حِكمةِ ولادةِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم في عامِ الفيلِ بلطيفةٍ نفيسةٍ: وهي وِراثةُ الإسلامِ للمسيحِية وغيرِها من الأديانِ السماوية السابقة التي حرَّفَها أصحابُها؛ فقد هُزِمَ في هذا العامِ جيشُ أبْرَهة، وعَجَزَ كذلك عبَدَةُ الأصنام من قريشٍ عن حِمايةِ الكَعبةِ التي يُعَظِّمها العرَبُ رغم وَثَنِيَّتِهم، وكان أبرَهةُ نصرانياًّ حاقِداً عازماً على هَدْمِ الكعبةِِ، كما يُفِيدُه التعبِيرُ القُرآنِيُّ (ألم يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضلِيل)؛ فكانت وِلادةُ نبِيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم في عامِ الفيلِ إبطالاً لكيدِ النصارى الضالِّين، وإشارةً إلى وِراثةِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم للبَيتِ الذي حُفِظَ في عامِ مَولِدِه، وإيذاناً بِمَولِدِ الدِّينِ الحقِّ وغَلبةِ الإسلام على جزيرةِ العربِ وما حولَها وهزيمةِ كُفارِ مكةَ ومُشرِكِي أهلِ الكتاب! وهو ما حصلَ في حياتِه صلى الله عليه وسلم وتواصَلَ بعد وفاتِه لاسيما في عهدِ عمر رضي الله عنه. حتى تجاوز بحمد الله في قرننا الخامس عشر الهجري ملياراً ونصفَ مليارِ مُسلم: أي نحو ثُلُثُ العالَم؛ وهذا متعلِّقٌ بصِدقِ النبوة المحمدية والمعجزة القرآنية الخالدة، وهو الوحي المنزَّلُ عليه الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وتأمَّلْ قولَه تعالى في سُورةِ (آل عمران): (إنْ تَمْسَسْكُم حَسَنةٌ تسُؤْهم وإنْ تُصِبْكم سَيِّئةٌ يَفرَحُوا بها وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شيئاً إنَّ الله بِما يَعمَلُون مُحِيط)! وما تضمَّنتْه مِن بلاغةِ التعبيرِ القرآني عن كَيْدِ أهلِ الكِتابِ وما جُبِلُوا عليه مِن بُغْضِ المسلِمين؛ حتى إنَّ الحسَنةَ التي تَمَسُّ المسلِمِين تَسُوءُهم! والسيِّئةَ التي تُصِيبُ المؤمنين تُفْرِحُهم!
إنَّ هذا السِّياقَ مِن (آلِ عمران) يُذَكِّرُنا بسِياقِ سُورةِ (الفيلِ) التي جاء فيها إبطالُ كَيْدِ النصارى وقد هَمُّوا بِهَدْمِ الكَعبةِ مَعْلَمِ التوحِيد الباقِي مِن حَنِيفِيَّةِ إبراهيمَ عليه السلام، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (ألم ترَ كيف فَعَلَ ربُّك بأصحابِ الفِيلِ ألم يَجْعَلْ كيدَهم في تَضْلِيلٍ وأرْسَلَ عليهم طيراً أبابِيلَ تَرْمِيهم بِحِجارةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فجَعَلَهم كعَصْفٍ مأكُولٍ). فقد أراد أصْحابُ الفِيلِ مِنْ نَصارَى اليَمَنِ والحبشَةِ أنْ يَهْدِمُوا الكَعبةَ المشرَّفَة ويَقْضُوا على هذه الحسَنةِ التي ساءتْهم: كعبة التوحيد التي حَبا الله بها مَكةَ المكرَّمة: (إنْ تَمْسَسْكُم حَسَنَةٌ تسُؤْهم)! وهل حَسَنةٌ تَعْدِلُ بَيْتَ اللهِ العَتِيق؟ ميراث إبراهيمَ عليه السلام الذي أرادَ الله عزَّ وجلَّ لأُمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وِراثَتَه وتَطهِيرَه مِن الشرك! فأهلك الله أصحابَ الفِيل وجعَلَ (كيدَهم في تضلِيل)! قال بن كثير رحمه الله: “هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وَرَدَّهم بشر خيبة. وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان. ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصُرْكم يا معشَرَ قريشٍ على الحبشة لخيريتِكم عليهم، ولكنْ صِيانةً للبيت العتيق الذي سنشرِّفه ونعظِّمُه ونوقِّرُه ببعثةِ النبِيِّ الأمِّيِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء”.
وكما أهلك أصحاب الفيل، فسيُهلِك غيرَهم مِن الكُفَّارِ والمشركين الذين لا يزالُون يُقاتِلُون المسلمين؛ حتى يَرُدُّوهم عن هذا الدين؛ لاسيما الذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: (ودَّ كثيرٌ مِن أهلِ الكتابِ لو يرُدُّونكم من بعدِ إيمانِكم كُفَّاراً حَسَداً مِن عندِ أنفُسِهم مِن بَعدِ ما تبيَّنَ لهم الحق)، وكثيرٌ من المسلمين عن هذه العداوةِ غافِلُون! وقد قال الله عزَّ وجل: (ولا يزالُون يُقاتِلُونَكم حتى يَرُدُّوكم عن دينِكم إن استَطاعُوا)، وقال جلَّ جلاله: (ولن ترضَى عنك اليَهُودُ ولا النصارى حتى تتَّبِعَ مِلَّتَهم). فالآيتان صريحتان في أن عداوة اليهود والنصارى للمسلمين وقتالهم لا يزالان مستمرَّيْن لردِّ المسلمين عن دينِهم إن استطاعوا واتباعِ ملتِهم الباطلة. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
وسُبحان الله! كم يُذكِّرُنا هذا السِّياقُ في (آل عمران) الذي يَكشِفُ ما انطوتْ عليه قلوبُ أهلِ الكتابِ من بُغضِ المسلمين وكراهةِ دينِهم (وإذا خَلَوْا عَضُّوا عليهم الأنامِلَ مِن الغَيظ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكم) بالتعبِيرِ الجامِعِ في آخرِ (سُورةِ الفَتح) بين تَبشِيرِ المسلمِين بِنَصْرِ الله والوَصْفِ الجميلِ في التوراةِ والإنجيلِ للنبِيِّ صلى الله عليه وسلم وصَحبِه الكرام رضي الله عنهم: (هو الذي أرْسَلَ رسولَه بالهدى ودِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَه على الدِّينِ كلِّه وكفَى بالله شَهِيداً محمدٌ رسُولُ الله والذين معَه أشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بينَهم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبتغُون فَضلا مِن الله ورِضوانا سِيماهُم في وُجُوهِهم مِن أثَرِ السُّجُودِ ذلك مَثَلُهم في التوراةِ ومثَلُهم في الإنجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شطأه فآزرَه فاستغلَظَ فاستوَى على سُوقِه يُعْجِبُ الزرَّاعَ لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ وَعَدَ الله الذين آمنُوا وعمِلُوا الصالِحاتِ منهم مَغفِرةً وأجْراً عظِيما). فالغَيظُ هو الغَيظُ، والكَيْدُ هو الكَيْدُ، (وإنْ تَصْبِرُوا وتتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيدُهم شيئاً إنَّ الله بِما يعمَلُون مُحِيط).
فقد شاء الله جلَّ جلاله أنْ يكُونَ ردُّ كَيْدِ النصارى الضالِّين ـ في عامِ الفِيلِ ـ عند وِلادةِ خاتَمِ النبيِّين صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي سيَرِثُ هذا البَيتَ الذي حُفِظَ في عامِ مَولِدِه، ويَرِثُ حَنِيفِيةَ إبراهيمَ عليه السلام؛ لأنَّه (أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ)، وسيَهزِمُ كُفَّارَ مكةَ ومُشرِكِي أهلِ الكتابِ الذين أعرضُوا عن بشارةِ المسيحِ عليه السلامُ بإتيانِ أخيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن بَعدِه: (وإذْ قال عيسى بنُ مريم يا بنِي إسرائيلَ إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً لِما بين يدَيَّ مِن التوراةِ ومُبَشِّراً برسُولٍ يأتِي مِن بعدي اسْمُه أحمد فلما جاءهم بالبيِّنات قالوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ومَنْ أظلَمُ مِمَّنْ افترَى على الله الكَذِبَ وهو يُدْعَى إلى الإسلامِ والله لا يهدي القومَ الظالِمِين يُرِيدُون لِيُطْفِئوا نُورَ الله بأفواهِهم والله مُتِمُّ نُورِه ولو كَرِهَ الكافِرُون هو الذي أرْسَلَ رسُولَه بالهدَى ودِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَه على الدِّينِ كلِّه ولو كَرِهَ المشرِكُون).
فاستِحْضارُ هذه المعانِي الحضاريةِ الكُبرى مِن سُورَتَيْ (الفِيل) و(الصَّف) و(الفتح) التي تشمل البشاراتِ النَّبويَّةَ بالمولِدِ والمبعَثِ والفتحِ؛ يُعِينُنا على فَهْمِ سَبَبِ تنازُعِ أهلِ الكتابِ في الانتِسابِ إلى إبراهيم الخليل عليه السلام! فقد نَصَّتْ سُورةُ (آل عمران) على نَفْيِ تَعَلُّقِ أهلِ الكِتابِ مِن اليهودِ والنصارى بالحنيفيةِ وبراءةِ إبراهيم عليه السلام من تَحريفِهم وشِرْكِهم وإثباتِ أحقِّيةِ دينِ الإسلام بِمِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، فقال الله عزَّ وجل: (يا أهلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّون في إبراهِيمَ وما أُنْزِلَتْ التوراةُ والإنجيلُ إلا مِن بَعْدِه أفلا تعقِلُون ها أنتم هؤلاء حاجَجْتُم فيما لكم به عِلْمٌ فلِمَ تُحاجُّون فيما ليسَ لكم به عِلْمٌ والله يعلَمُ وأنتم لا تعلمُون ما كان إبراهيمُ يهودياًّ ولا نَصرانِياًّ ولكنْ كان حَنِيفاً مُسْلِماً وما كان مِن المشرِكين إنَّ أولَى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذين اتبَعُوه وهذا النبِيُّ والذين آمنوا والله وَلِيُّ المؤمنين). قال سيد قطب رحمه الله: “نزلَتْ رداًّ على ادعاءاتٍ لأهلِ الكتاب وحِجاجٍ مع النبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو مع بعضِهم البعض في حَضرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. والهدفُ من هذه الادعاءاتِ هو احتِكارُ عَهدِ الله مع إبراهيمَ عليه السلام أنْ يجعَلَ في بيتِه النُّبُوة؛ واحتِكارُ الهدايةِ والفَضلِ كذلك. ثم وهذا هو الأهم تكذيبُ دعوَى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه على دينِ إبراهيم، وأنَّ المسلمين هم وَرَثةُ الحنيفية الأولى؛ وتشكِيكُ المسلمين في هذه الحقيقةِ أو بَثُّ الرِّيبةِ في نُفُوسِ بعضِهم على الأقل؛ ومِن ثَمَّ يُنَدِّد الله بهم هذا التندِيد، ويَكْشِفُ مِراءَهم الذي لا يَستَنِدُ إلى دليلٍ؛ فإبراهيمُ سابِقٌ على التوراة، وسابِقٌ على الإنجيل؛ فكيف إذنْ يكون يهودياًّ؟ أو كيف إذن يكون نصرانيا؟! إنها دعوى مُخالِفةٌ لِلعَقلِ تبدُو مُخالَفتُها بِمُجرَّدِ النظرةِ الأولَى إلى التاريخ… (ما كان إبراهيم يهودياًّ ولا نصرانياًّ ولكنْ كان حنِيفاً مُسْلِماً وما كان مِن المشرِكين)… فليس لأيٍّ مِن اليهودِ أو النصارى أو المشركين أيضاً أنْ يَدَّعِيَ وِراثتَه ولا الولايةَ على دِينِه وهم بعيدُون عن عقيدتِه! والعقيدةُ هي الوَشِيجةُ الأولَى التي يتلاقَى عليها الناسُ في الإسلام”.